فصل: الجزء الرابع عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء الرابع عشر

سورة الحجر

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الر‏}‏‏.‏

تقدم الكلام على نظير فاتحة هذه السورة في أول سورة يونس‏.‏

وتقدم في أول سورة البقرة ما في مثل هذه الفواتح من إعلان التحديد بإعجاز القرآن‏.‏

الإشارة إلى ما هو معروف قبل هذه السورة من مقدار ما نزل بالقرآن، أي الآيات المعروفة عندكم المتميزة لديكم تميزاً كتميز الشيء الذي تمكن الإشارة إليه هي آيات الكتاب‏.‏ وهذه الإشارة لتنزيل آيات القرآن منزلة الحاضر المشاهد‏.‏

و ‏{‏الكتاب‏}‏ علم بالغلبة على القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للهدى والإرشاد إلى الشريعة‏.‏ وسمي كتاباً لأنهم مأمورون بكتابة ما ينزل منه لحفظه ومُراجعته؛ فقد سمي القرآن كتاباً قبل أن يُكتب ويجمع لأنه بحيث يكون كتاباً‏.‏

ووقعت هذه الآية في مفتتح تهديد المكذبين بالقرآن لقصد الإعذار إليهم باستدعائهم للنظر في دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقية دينه‏.‏

ولمّا كان أصل التعريف باللام في الاسم المجعول علماً بالغلبة جائياً من التوسل بحرف التعريف إلى الدلالة على معنى كماللِ الجنس في المعرف به لم ينقطع عن العلَم بالغلَبة أنه فائق في جنسه بمعونة المقام، فاقتضى أن تلك الآيات هي آيات كتاب بالغ منتهى كمال جنسه، أي من كتب الشرائع‏.‏

وعطف ‏{‏وقرآن‏}‏ على ‏{‏الكتاب‏}‏ لأن اسم القرآن جعل علماً على ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز والتشريع، فهو الاسم العلَم لكتاب الإسلام مثل اسم التوراة والإنجيل والزبور للكتب المشتهرة بتلك الأسماء‏.‏

فاسم القرآن أرسخ في التعريف به من الكتاب لأن العلَم الأصلي أدخل في تعريف المسمى من العلَم بالغلبة، فسواء نكّر لفظ القرآن أو عرف باللام فهو علم على كتاب الإسلام‏.‏ فإن نكّر فتنكيره على أصل الأعلام، وإن عُرّف فتعريفه لِلَمْح الأصل قبل العلمية كتعريف الأعلام المنقولة من أسماء الفاعلين لأن «القرآن» منقول من المصدر الدال على القراءة، أي المقروء الذي إذا قرئ فهو منتهى القراءة‏.‏

وفي التسمية بالمصدر من معنى قوة الاتصاف بمادة المصدر ما هو معلوم‏.‏

وللإشارة إلى ما في كل من العلمين من معنى ليس في العلم الآخر حسن الجمع بينهما بطريق العطف، وهو من عطف ما يعبر عنه بعطف التفسير لأن «قرآن» بمنزلة عطف البيان من «كتاب» وهو شبيه بعطف الصفة على الموصوف ومَا هو منه، ولكنه أشبهه لأن المعطوف متبوع بوصف وهو ‏{‏مبين‏}‏‏.‏ وهذا كله اعتبار بالمعنى‏.‏

وابتُدئ بالمعرّف باللام لما في التعريف من إيذان بالشهرة والوضوح وما فيه من الدلالة على معنى الكمال، ولأن المعرّف هو أصل الإخبار والأوصاف‏.‏ ثم جيء بالمنكر لأنه أريد وصفه بالمبين، والمنكّر أنسب بإجراء الأوصاف عليه، ولأن التنكير يدل على التفخيم والتعظيم، فوزعت الدلالتان على نكتة التعريف ونكتة التنكير‏.‏

فأما تقديم الكتاب على القرآن في الذكر فلأن سياق الكلام توبيخ الكافرين وتهديدهم بأنهم سيجيء وقت يتمنون فيه أن لو كانوا مؤمنين‏.‏ فلما كان الكلام موجهاً إلى المنكرين ناسب أن يستحضر المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم بعنوانه الأعم وهو كونه كتاباً، لأنهم حين جادلوا ما جالوا إلا في كتاب فقالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏ ولأنهم يعرفون ما عند الأمم الآخرين بعنوان كتاب، ويعرفونهم بعنوان أهل الكتاب‏.‏

فأما عنوان القرآن فهو مناسب لكون الكتاب مقروءاً مدروساً وإنما يقرأه ويدرسه المؤمنون به‏.‏ ولذلك قدم عنوان القرآن في سورة النمل كما سيأتي‏.‏

والمبين‏:‏ اسم فاعل من أبان القاصر الذي هو بمعنى بَان مبالغة في ظهوره، أي ظهور قُرآنيته العظيمة، أي ظهور إعجازه الذي تحققه المعاندون وغيرهم‏.‏

وإنما لم نجعل المبين بمعنى أبان المتعدي لأن كونه بيّنا في نفسه أشد في توبيخ منكريه من وصفه بأنه مظهر لما اشتمل عليه‏.‏ وسيجيء قريب من هذه الآية في أول سورة النمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي وهو مفتتح الغرض وما قبله كالتنبيه والإنذار‏.‏

و ‏{‏ربما‏}‏ مركبة من ‏(‏رب‏)‏‏.‏ وهو حرف يدل على تنكير مدخوله ويجر ويختص بالأسماء‏.‏ وهو بتخفيف الباء وتشديدها في جميع الأحوال‏.‏ وفيها عدة لغات‏.‏

وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بتخفيف الباء‏.‏ وقرأ الباقون بتشديدها‏.‏

واقترنت بها ‏(‏ما‏)‏ الكافة ل ‏(‏ربّ‏)‏ عن العمل‏.‏ ودخول ‏(‏ما‏)‏ بعد ‏(‏رب‏)‏ يكُف عملها غالباً‏.‏ وبذلك يصح دخولها على الأفعال‏.‏ فإذا دخلت على الفعل فالغالب أن يراد بها التقليل‏.‏

والأكثر أن يكون فعلاً ماضياً، وقد يكون مضارعاً للدلالة على الاستقبال كما هنا‏.‏ ولا حاجة إلى تأويله بالماضي في التحقق‏.‏

ومن النحويين من أوجب دخولها على الماضي، وتأول نحو الآية بأنه منزّل منزلة الماضي لتحققه‏.‏ ومعنى الاستقبال هنا واضح لأن الكفار لم يَودّوا أن يكونوا مسلمين قبل ظهور قوة الإسلام من وقت الهجرة‏.‏

والكلام خبر مستعمل في التهديد والتهويل في عدم اتباعهم دين الإسلام‏.‏ والمعنى‏:‏ قد يود الذين كفروا لو كانوا أسلموا‏.‏

والتقليل هنا مستعمل في التهكم والتخويف، أي احذروا وَدادتكم أن تكونوا مسلمين، فلعلها أن تقع نادراً كما يقول العرب في التوبيخ‏:‏ لعلك ستندم على فعلك، وهم لا يشكون في تندمه، وإنما يريدون أنه لو كان الندم مشكوكاً فيه لكان حقاً عليك أن تفعل ما قد تندم على التفريط فيه لكي لا تندم، لأن العاقل يتحرز من الضُر المظنون كما يتحرز من المتيقن‏.‏

والمعنى أنهم قد يودّون أن يكونوا أسلموا ولكن بعد الفوات‏.‏

والإتيان بفعل الكون الماضي للدلالة على أنهم يودون الإسلام بعد مضي وقت التمكن من إيقاعه، وذلك عندما يقتلون بأيدي المسلمين، وعند حضور يوم الجزاء، وقد ودّ المشركون ذلك غير مرة في الحياة الدنيا حين شاهدوا نصر المسلمين‏.‏

وعن ابن مسعود‏:‏ ودّ كفارُ قريش ذلك يوم بدر حين رأوا نصر المسلمين‏.‏ ويتمنّون ذلك في الآخرة حين يساقون إلى النار لكفرهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتّخذت مع الرسول سبيلا‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وكذلك إذا أخرج عصاة المسلمين من النار ودّ الذين كفروا في النار لو كانوا مسلمين، على أنهم قد ودُّوا ذلك غير مرة وكتموه في نفوسهم عناداً وكفراً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نردّ ولا نكذّب بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 27، 28‏]‏، أي فلا يصرحون به‏.‏

ولو‏}‏ في ‏{‏لو كانوا مسلمين‏}‏ مستعملة في التمني لأن أصلها الشرطية إذ هي حرف امتناع لامتناع، فهي مناسبة لمعنى التمني الذي هو طلب الأمر الممتنع الحصول، فإذا وقعت بعد ما يدل على التمني استعملت في ذلك كأنها على تقدير قول محذوف يقوله المتمني، ولما حذف فعل القول عدل في حكاية المقول إلى حكايته بالمعنى‏.‏ فأصل ‏{‏لو كانوا مسلمين‏}‏ لو كُنّا مسلمين‏.‏

والتزم حذف جواب ‏{‏لو‏}‏ اكتفاء بدلالة المقام عليه ثم شاع حذف القول، فأفادت ‏{‏لو‏}‏ معنى المصدرية فصار المعنى‏:‏ يودّ الذين كفروا كونهم مسلمين، ولذلك عَدُّوها من حروف المصدرية وإنما المصدر معنى عارض في الكلام وليس مدلولها بالوضع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

لما دلّت ‏(‏رُبّ‏)‏ على التقليل اقتضت أن استمرارهم على غلوائهم هو أكثر حالهم، وهو الإعراض عما يدعوهم إليه الإسلام من الكمال النفسي، فبإعراضهم عنه رضوا لأنفسهم بحياة الأنعام، وهي الاقتصار على اللذات الجسدية، فخوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يُعرّض لهم بذلك من أن حياتهم حياة أكل وشرب‏.‏ وذلك مما يتعيّرون به في مجاري أقوالهم كما في قول الحطيئة‏:‏

دَع المكارم لا تنهض لبُغيتها *** واقعُدْ فإنك أنتَ الطاعم الكاسي

وهم منغمسون فيما يتعيّرون به في أعمالهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم‏}‏ ‏[‏سورة محمد‏:‏ 12‏]‏‏.‏

و ‏{‏ذر‏}‏ أمر لم يسمع له ماض في كلامهم‏.‏ وهو بمعنى الترك‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وذر الذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏70‏)‏‏.‏

والأمر بتركهم مستعمل في لازمه وهو قلة جدوى الحرص على إصلاحهم‏.‏ وليس مستعملاً في الإذن بمتاركتهم لأن النبي مأمور بالدوام على دعائهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً إلى قوله‏:‏ ‏{‏وذكّر به أن تبسل نفس بما كسبت‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 70‏]‏‏.‏ فما أمره بتركهم إلا وقد أعقبه بأمره بالتذكير بالقرآن؛ فعلم أن الترك مستعمل في عدم الرجاء في صلاحهم‏.‏ وهذا كقول كبشة أُخت عمرو بن معد يكرب في قتل أخيها عبد الله تستنهض أخاها عمراً للأخذ بثأره‏:‏

وَدَعْ عنك عمرا إن عَمْرا مُسالِم *** وهل بَطن عَمرو غيرُ شِبر لمَطْعَم

وقد يستعمل هذا الفعل وما يراد به كناية عن عدم الاحتياج إلى الإعانة أو عن عدم قبول الوساطة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيدا‏}‏ ‏[‏سورة المدثر‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين‏}‏ ‏[‏سورة المزمل‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وقد يستعمل في الترك المجازي بتنزيل المخاطب منزلة المتلبّس بالضدّ كقول أبي تمام‏:‏

دعوني أنُحْ من قبل نوح الحمائم *** ولا تجعلوني عُرضة للوَائِم

إذ مثل هذا يقال عند اليأس والقنوط عن صلاح المرء‏.‏

وقد حذف متعلق الترك لأن الفعل نزل منزلة ما لا يحتاج إلى متعلق، إذ المعني به ترك الاشتغال بهم والبعد عنهم، فلذلك عدّي فعل الترك إلى ذواتهم ليدل على اليأس منهم‏.‏

ويأكلوا‏}‏ مجزوم بلام الأمر محذوفة كما تقدم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة‏}‏ في سورة إبراهيم ‏(‏31‏)‏‏.‏ وهو أمر للتوبيخ والتوعد والإنذار بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏‏.‏ وهو كقوله‏:‏ ‏{‏كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون‏}‏ سورة المرسلات ‏(‏46‏)‏‏.‏

ولا يحسن جعله مجزوماً في جواب ذرهم‏}‏ لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوتهم أم دعاهم‏.‏

والتمتع‏:‏ الانتفاع بالمتاع‏.‏ وقد تقدم غير مرة، منها قوله‏:‏ ‏{‏ومتاع إلى حين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏24‏)‏‏.‏

وإلهاء الأمل إياهم‏:‏ هو إنساؤه إياهم ما حقهم أن يتذكروه؛ بأن يصرفهم تطلب ما لا ينالون عن التفكير في البعث والحياة الآخرة‏.‏

و ‏{‏الأمَلُ‏}‏‏:‏ مصدر‏.‏ وهو ظن حصول أمر مرغوب في حصوله مع استبعاد حصوله‏.‏ فهو واسطة بين الرجاء والطمع‏.‏ ألا ترى إلى قول كعب‏:‏

أرجو وآمُل أن تدنو مودتها *** وما إخال لدينا منك تنويل

وتفرع على التعريض التصريح بالوعيد بقوله‏:‏ ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ بأنه مما يستعمل في الوعيد كثيراً حتى صار كالحقيقة‏.‏ وفيه إشارة إلى أن لإمهالهم أجلاً معلوماً كقوله‏:‏ ‏{‏وسوف يعلمون حين يرون العذاب‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 42‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ‏(‏4‏)‏ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

اعتراض تذييلي لأن في هذه الجملة حكماً يشملهم وهو حكم إمهال الأمم التي حق عليها الهلاك، أي ما أهلكنا أمّة إلا وقد متّعناها زمناً وكان لهلاكها أجل ووقت محدود، فهي ممتعة قبل حلوله، وهي مأخوذة عند إبانه‏.‏

وهذا تعريض لتهديد ووعيد مؤيدٌ بتنظيرهم بالمكذبين السالفين‏.‏

وإنما ذكر حال القرى التي أهلكت من قبلُ لتذكير هؤلاء بسنّة الله في إمهال الظالمين لئلا يغرّهم ما هم فيه من التمتع فيحسبوا أنهم أفلتوا من الوعيد‏.‏ وهذا تهديد لا يقتضي أن المشركين قدر الله أجلاً لهلاكهم، فإن الله لم يستأصلهم ولكن هدى كثيراً منهم إلى الإسلام بالسيف وأهلك سادتهم يوم بدر‏.‏

والقَرْية‏:‏ المدينة‏.‏ وتقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كالذي مرّ على قرية‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏259‏)‏‏.‏

والكتاب‏:‏ القَدَر المحدود عند الله‏.‏ شبّه بالكتاب في أنه لا يقبل الزيادة والنقص‏.‏ وهو معلوم عند الله، لا يضلّ ربي ولا ينسى‏.‏

وجملة ولها كتاب معلوم‏}‏ في موضع الحال، وكفاك علماً على ذلك اقترانها بالواو فهي استثناء من عموم أحوال، وصاحب الحال هو ‏{‏قرية‏}‏ وهو وإن كان نكرة فإن وقوعها في سياق النفي سوّغ مجيء الحال منه كما سوّغ العموم صحة الإخبار عن النكرة‏.‏

وجملة ‏{‏ما تسبق من أمةٍ أجلها‏}‏ بيان لجملة ‏{‏ولها كتاب معلوم‏}‏ لبيان فائدة التحديد‏:‏ أنه عدم المجاوزة بدءاً ونهاية‏.‏

ومعنى ‏(‏تسبق أجلها‏)‏ تفوته، أي تُعْدم قبل حلوله، شبّه ذلك بالسبق‏.‏

و ‏{‏يستأخرون‏}‏‏:‏ يتأخرون‏.‏ فالسين والتاء للتأكيد‏.‏

وأنّث مفرداً ضمير الأمّة مرة مراعاة للفظ، وجُمع مذكراً مراعاة للمعنى‏.‏ وحذف متعلق ‏{‏يستأخرون‏}‏ للعلم به، أي وما يستأخرون عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ‏(‏6‏)‏ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ذرهم يأكلوا ويتمتعوا‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ والمناسبة أن المعطوف عليها تضمنّت انهماكهم في الملذّات والآمال، وهذه تضمّنت توغّلهم في الكفر وتكذيبهم الرسالة المحمّدية‏.‏

والمعنى‏:‏ ذرهم يكذبون ويقولون شتى القول من التكذيب والاستهزاء‏.‏

والجملة كلها من مقولهم‏.‏

والنداء في يأيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏ للتشهير بالوصف المنادى به، واختيار الموصولية لما في الصلة من المعنى الذي جعلوه سبب التهكّم‏.‏ وقرينة التهكّم قولهم‏:‏ ‏{‏إنك لمجنون‏}‏‏.‏ وقد أرادوا الاستهزاء بوصفه فأنطقهم الله بالحق فيه صَرفاً لألسنتهم عن الشتم‏.‏ وهذا كما كانوا إذا شتموا النبي صلى الله عليه وسلم أو هجوه يدعونه مذمماً؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة‏:‏ «ألَمْ تَرَيْ كيف صرف الله عني أذى المُشركين وسبّهم، يسبون مُذمماً وأنا محمد»‏.‏ وفي هذا إسناد الصلة إلى الموصول بحسب ما يدعيه صاحب اسم الموصول، لا بحسب اعتقاد المتكلم على طريقة التهكّم‏.‏

و ‏{‏الذكر‏}‏‏:‏ مصدر ذكر، إذا تلفظ‏.‏ ومصدر ذكر إذا خطر بباله شيء‏.‏ فالذكر الكلام الموحَى به ليتلَى ويكرر، فهو للتلاوة لأنه يُذكر ويعاد؛ إما لأن فيه التذكير بالله واليوم الآخر، وإما بمعنى أن به ذكرهم في الآخرين، وقد شملها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 10‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإنه لذكر لك ولقومك‏}‏ ‏[‏سورة الزخرف‏:‏ 44‏]‏ والمراد به هنا القرآن‏.‏

فتسمية القرآن ذكرا تسمية جامعة عجيبة لم يكن للعرب علم بها من قبل أن تَرد في القرآن‏.‏

وكذلك تسميته قُرآناً لأنه قصد من إنزاله أن يقرأ، فصار الذكر والقرآن صنفين من أصناف الكلام الذي يلقى للناس لقصد وعيه وتلاوته، كما كان من أنواع الكلام الشعر والخطبة والقصة والأسطورة‏.‏

ويدلك لهذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين‏}‏ ‏[‏سورة يس‏:‏ 69‏]‏، فنفى أن يكون الكتاب المنزل على محمد شعراً، ووصفه بأنه ذكر وقرآن، ولا يخفى أن وصفه بذلك يقتضي مغايرة بين الموصوف والصفة، وهي مغايرة باعتبار ما في الصفتين من المعنى الذي أشرنا إليه‏.‏ فالمراد‏:‏ أنه من صنف الذكر ومن صنف القرآن، لا من صنف الشعر ولا من صنف الأساطير‏.‏

ثم صار القرآن بالتعريف باللام عَلَماً بالغلبة على الكتاب المنزّل على محمد كما علمت آنفاً‏.‏

وإنما وصفوه بالجنون لتوهّمهم أن ادعاء نزول الوحي عليه لا يصدر من عاقل، لأن ذلك عندهم مخالف للواقع توهّماً منهم بأن ما لا تقبله عقولهم التي عليها غشاوة ليس من شأنه أن يقبله العقلاء، فالداعي به غير عاقل‏.‏

والمجنون‏:‏ الذي جُنّ، أي أصابه فساد في العقل من أثر مسّ الجنّ إياه في اعتقادهم، فالمجنون اسم مفعول مشتق من الفعل المبني للمجهول وهو من الأفعال التي لم ترد إلا مسندة للمجهول‏.‏

وتأكيد الجملة ب ‏(‏إن‏)‏ واللام لقصدهم تحقيق ذلك له لعلّه يرتدع عن الاستمرار فيه أو لقصدهم تحقيقه للسامعين حاضري مجالسهم‏.‏

وجملة لو ما تأتينا بالملائكة‏}‏ استدلال على ما اقتضته الجملة قبلها باعتبار أن المقصود منها تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام لأن ما يصدر من المجنون من الكلام لا يكون جارياً على مطابقة الواقع فأكثره كذب‏.‏

و ‏{‏لو ما‏}‏ حرف تحضيض بمنزلة لولا التحضيضية‏.‏ ويلزم دخولها الجملة الفعلية‏.‏

والمراد بالإتيان بالملائكة حضورهم عندهم ليخبرهم بصدقه في الرسالة‏.‏ وهذا كما حكى الله في الآية الأخرى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو تأتي بالله والملائكة قبيلا‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 92‏]‏‏.‏

ومن الصادقين‏}‏ أي من الناس الذين صفتهم الصدق، وهو أقوى من ‏(‏إن كنت صادقاً‏)‏، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكونوا مع الصادقين‏}‏ في سورة براءة ‏(‏219‏)‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏67‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

مستأنفة ابتدائية جواباً لكلامهم وشبهاتهم ومقترحاتهم‏.‏

وابتدئ في الجواب بإزالة شبهتهم إذ قالوا‏:‏ ‏{‏لو ما تأتينا بالملائكة‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ أريد منه إزالة جهالتهم إذ سألوا نزول الملائكة علامة على التصديق لأنهم وإن طلبوا ذلك بقصد التهكم فهم مع ذلك معتقدون أن نزول الملائكة هو آية صدق الرسول، فكان جوابهم مشوباً بطرف من الأسلوب الحكيم، وهو صرفهم إلى تعليمهم الميز بين آيات الرسل وبين آيات العذاب، فأراد الله أن لا يدخرهم هدياً وإلا فهم أحرياء بأن لا يجابوا‏.‏

والنزول‏:‏ التدلي من علو إلى سفل‏.‏ والمراد به هنا انتقال الملائكة من العالم العلوي إلى العالم الأرضي نزولاً مخصوصاً‏.‏ وهو نزولهم لتنفيذ أمر الله بعذاب يرسله على الكافرين، كما أنزلوا إلى مدائن لوط عليه السلام‏.‏ وليس مثل نزول جبريل عليه السلام أو غيره من الملائكة إلى الرسل عليهم السلام بالشرائع أو بالوحي‏.‏ قال تعالى في ذكر زكرياء عليه السلام ‏{‏فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشّرك بيحيى‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 39‏]‏‏.‏

والمراد ب الحق هنا الشيء الحاقّ، أي المقضي، مثل إطلاق القضاء بمعنى المقضيّ‏.‏ وهو هنا صفة لمحذوف يعلم من المقام، أي العذاب الحاقّ‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكثير حقّ عليه العذاب‏}‏ ‏[‏سورة الحج‏:‏ 18‏]‏ وبقرينة قوله‏:‏ وما كانوا إذا منظرين‏}‏، أي لا تنزل الملائكة للناس غير الرسل والأنبياء‏.‏ عليهم الصلاة والسلام إلا مصاحبين للعذاب الحاقّ على الناس كما تنزلت الملائكة على قوم لوط وهو عذاب الاستئصال‏.‏ ولو تنزلت الملائكة لعجل للمنزل عليهم ولما أمهلوا‏.‏

ويفهم من هذا أن الله منظرهم، لأنه لم يُرد استئصالهم، لأنه أراد أن يكون نشر الدين بواسطتهم فأمهلهم حتى اهتدوا، ولكنه أهلك كبراءهم ومدبريهم‏.‏

ونظير هذا قوله تعالى في سورة الأنعام ‏(‏8‏)‏‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون‏}‏ وقد نزلت الملائكة عليهم يوم بدر يقطعون رؤوس المشركين‏.‏

والإنظار‏:‏ التأخير والتأجيل‏.‏

وإذاً‏}‏ حرف جواب وجزاء‏.‏ وقد وسطت هنا بين جزأي جوابها رعياً لمناسبة عطف جوابها على قول‏:‏ ‏{‏ما تنزل الملائكة‏}‏‏.‏ وكان شأن ‏(‏إذن‏)‏ أن تكون في صدر جوابها‏.‏ وجملتها هي الجواب المقصود لقولهم‏:‏ ‏{‏لو ما تأتينا بالملائكة‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وجملة ما تنزل الملائكة إلا بالحق مقدمة من تأخير لأنها تعليل للجواب، فقدم لأنه أوقع في الرد، ولأنه أسعد بإيجاز الجواب‏.‏

وتقدير الكلام لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين إذن ما كنتم مُنظرين بالحياة ولعجل لكم الاستئصال إذ ما تنزل الملائكة إلا مصحوبين بالعذاب الحاقّ‏.‏ وهذا المعنى وارد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب‏}‏ ‏[‏سورة العنكبوت‏:‏ 53‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ما تنزل‏}‏ بفتح التاء على أن أصله ‏(‏تتنزَّل‏)‏‏.‏

وقرأ أبو بكر عن عاصم بضم التاء وفتح الزاي على البناء للمجهول ورفع الملائكة على النيابة‏.‏

وقرأ الكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف ‏{‏ما ننزل الملائكة‏}‏ بنون في أوله وكسر الزاي ونصب الملائكة على المفعولية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي لإبطال جزء من كلامهم المستهزئين به، إذ قالوا‏:‏ ‏{‏يأيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 6‏]‏، بعد أن عجل كشف شبهتهم في قولهم‏:‏ ‏{‏لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 7‏]‏‏.‏

جاء نشر الجوابين على عكس لفّ المقالين اهتماماً بالابتداء بردّ المقال الثاني بما فيه من الشبهة بالتعجيز والإفحام، ثم ثُني العنان إلى ردّ تعريضهم بالاستهزاء وسؤال رؤية الملائكة‏.‏

وكان هذا الجواب من نوع القول بالموجب بتقرير إنزال الذكر على الرسول مجاراة لظاهر كلامهم‏.‏ والمقصود الردّ عليهم في استهزائهم، فأكد الخبر بإنا‏}‏ وضمير الفصل مع موافقته لما في الواقع كقوله‏:‏ ‏{‏قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون‏}‏ ‏[‏سورة المنافقون‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ثم زاد ذلك ارتقاء ونكاية لهم بأن منزل الذكر هو حافظه من كيد الأعداء؛ فجملة وإنا له لحافظون‏}‏ معترضة، والواو اعتراضية‏.‏

والضمير المجرور باللام عائد إلى ‏{‏الذكر‏}‏، واللام لتقوية عمل العامل لضعفه بالتأخير عن معموله‏.‏

وشمل حفظه الحفظ من التلاشي، والحفظ من الزيادة والنقصان فيه، بأن يسّر تواتره وأسباب ذلك، وسلّمه من التبديل والتغيير حتى حفظته الأمّة عن ظهور قلوبها من حياة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقرّ بين الأمّة بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وصار حفّاظه بالغين عدد التواتر في كل مصر‏.‏

وقد حكى عياض في «المدارك»‏:‏ أن القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي البصري سئل عن السرّ في تطرق التغيير للكتب السالفة وسلامة القرآن من طرق التغيير له‏.‏ فأجاب بأن الله أوكل للأحبار حفظ كتبهم فقال‏:‏ ‏{‏بما استحفظوا من كتاب الله‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 44‏]‏ وتولى حفظ القرآن بذاته تعالى فقال‏:‏ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏‏.‏

قال أبو الحسن بن المُنْتَاب ذكرت هذا الكلام للمَحَامِلي فقال لي‏:‏ لا أحسنَ من هذا الكلام‏.‏

وفي تفسير «القرطبي» في خبر رواه عن يحيى بن أكثم‏:‏ أنه ذكر قصة إسلام رجل يهودي في زمن المأمون، وحدث بها سفيان بن عيينة فقال سفيان‏:‏ قال الله في التوراة والإنجيل ‏{‏بما استحفظوا من كتاب الله‏}‏ فجعل حفظه إليهم فضاع‏.‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع» ا ه‏.‏ ولعل هذا من توارد الخواطر‏.‏

وفي هذا مع التنويه بشأن القرآن إغاظة للمشركين بأن أمر هذا الدين سيتم وينتشر القرآن ويبقى على ممرّ الأزمان‏.‏ وهذا من التحدّي ليكون هذا الكلام كالدليل على أن القرآن منزّل من عند الله آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لو كان من قول البشر أو لم يكن آية لتطرّقت إليه الزيادة والنقصان ولاشتمل على الاختلاف، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏10‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ باعتبار أن تلك جواب عن استهزائهم في قولهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ فإن جملة ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر‏}‏ قَول بموجَب قولهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏‏.‏ وجملة ‏{‏ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين‏}‏ إبطال لاستهزائهم على طريقة التمثيل بنظرائهم من الأمم السالفة‏.‏

وفي هذا التنظير تحقيق لكفرهم لأن كفر أولئك السالفين مقرّر عند الأمم ومتحدِّث به بينهم‏.‏

وفيه أيضاً تعريض بوعيد أمثالهم وإدماج بالكناية عن تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏

والتأكيد بلام القسم و‏(‏قَد‏)‏ لتحقيق سبق الإرسال من الله، مثل الإرسال الذي جحدوه واستعجبوه كقوله‏:‏ ‏{‏أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم‏}‏ ‏[‏سورة يونس‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وذلك مقتضى موقع قوله‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏‏.‏

والشِيَع جمع شيعة وهي الفرقة التي أمرها واحد، وتقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يلبسكم شيعا‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏65‏)‏‏.‏ ويأتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لننزعن من كل شيعة‏}‏ في سورة مريم ‏(‏69‏)‏، أي في أمم الأولين، أي القرون الأولى فإن من الأمم من أرسل إليهم ومن الأمم من لم يرسل إليهم‏.‏ فهذا وجه إضافة شيع‏}‏ إلى ‏{‏الأولين‏}‏‏.‏

و ‏{‏كانوا به يستهزءون‏}‏ يدلّ على تكرر ذلك منهم وأنه سنتهم، ف ‏(‏كان‏)‏ دلّت على أنه سجية لهم، والمضارع دل على تكرره منهم‏.‏

ومفعول ‏{‏أرسلنا‏}‏ محذوف دلت عليه صيغة الفعل، أي رُسلاً، ودلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏من رسول‏}‏‏.‏

وتقديم المجرور على ‏{‏يستهزءون‏}‏ يفيد القصر للمبالغة، لأنهم لما كانوا يكثرون الاستهزاء برسولهم وصار ذلك سجية لهم نزلوا منزلة من ليس له عمل إلا الاستهزاء بالرسول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏12‏)‏ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

استئناف بياني ناشئ عن سؤال يخطر ببال السامع لقوله ‏{‏وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 11‏]‏ فيتساءل كيف تواردت هذه الأمم على طريق واحد من الضلال فلم تفدهم دعوة الرسل عليهم السلام كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أتواصوا به بل هم قوم طاغون‏}‏ ‏[‏سورة الذاريات‏:‏ 53‏]‏‏.‏

والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 9‏]‏؛ إذ قد يخطر بالبال أن حفظ الذكر يقتضي أن لا يكفر به من كفر‏.‏ فأجيب بأن ذلك عقاب من الله لهم لإجرامهم وتلقّيهم الحق بالسخرية وعدم التدبر، ولأجل هذا اختير لهم وصف المجرمين دون الكافرين لأن وصف الكفر صار لهم كاللقب لا يشعر بمعنى التعليل‏.‏ ونظيره قوله في الآية الأخرى ‏{‏وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 125‏]‏‏.‏

والتعبير بصيغة المضارع في نسلكه‏}‏ للدلالة على أن المقصود إسلاك في زمن الحال، أي زمن نزول القرآن، ليعلم أن المقصود بيان تلقي المشركين للقرآن، فلا يتوهم أن المراد بالمجرمين شيع الأولين مع ما يفيده المضارع من الدلالة على التجديد المناسب لقوله‏:‏ ‏{‏وقد خلت سنة الأولين‏}‏، أي تجدد لهؤلاء إبلاغ القرآن على سنة إبلاغ الرسالات لمن قبلهم‏.‏

وفيه تعريض بأن ذلك إعذار لهم ليحل بهم العذاب كما حل بمن قبلهم‏.‏

والمشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ هو السلك المأخوذ من ‏{‏نسلكه‏}‏ على طريقة أمثالها المقررة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏

والسلك‏:‏ الإدخال‏.‏ قال الأعشى‏:‏

كما سَلَك السّكّي في الباب فَيْتَق *** أي مثل السلك الذي سنصفه نسلك الذكر في قلوب المجرمين، أي هكذا نولج القرآن في عقول المشركين، فإنهم يسمعونه ويفهمونه إذ هو من كلامهم ويدركون خصائصه؛ ولكنه لا يستقر في عقولهم استقرار تصديق به بل هم مكذبون به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 124 125‏]‏‏.‏

وبهذا السلوك تقوم الحجة عليهم بتبليغ القرآن إليهم ويعاد إسماعهُم إياه المرة بعد المرة لتقوم الحجة‏.‏

فضمير نسلكه‏}‏ و‏{‏به‏}‏ عائدان إلى ‏{‏الذكر‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 9‏]‏ أي القرآن‏.‏

والمجرمون هم كفار قريش‏.‏

وجملة لا يؤمنون به‏}‏ بيان للسلك المشبه به أو حال من المجرمين، أي تعيه عقولهم ولا يؤمنون به‏.‏ وهذا عام مراد به من ماتوا على الكفر منهم‏.‏ والمراد أنهم لا يؤمنون وقتاً ما‏.‏

وجملة ‏{‏وقد خلت سنة الأولين‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏لا يؤمنون به‏}‏ وجملة ‏{‏ولو فتحنا عليهم باباً من السماء‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 14‏]‏ الخ‏.‏

والكلام تعريض بالتهديد بأن يحل بهم ما حل بالأمم الماضية معاملة للنظير بنظيره، لأن كون سنة الأولين مضت أمر معلوم غير مفيد ذكره، فكان الخبر مستعملاً في لازمه بقرينة تعذر الحمل على أصل الخبرية‏.‏

والسنّة‏:‏ العادة المألوفة‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏137‏)‏‏.‏ وإضافتها إلى الأولين‏}‏ باعتبار تعلقها بهم، وإنما هي سنة الله فيهم لأنها المقصود هنا، والإضافة لأدنى ملابسة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ‏(‏14‏)‏ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏لا يؤمنون به‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 13‏]‏ وهو كلام جامع لإبطال جميع معاذيرهم من قولهم‏:‏ ‏{‏لو ما تأتينا بالملائكة‏}‏ سورة الحجر ‏(‏7‏)‏ وقولهم؛ ‏{‏إنك لمجنون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 6‏]‏ بأنهم لا يطلبون الدلالة على صدقه، لأن دلائل الصدق بيّنة، ولكنهم ينتحلون المعاذير المختلفة‏.‏

والكلامُ الجامعُ لإبطال معاذيرهم‏:‏ أنهم لو فتح الله باباً من السماء حين سألوا آيةً على صدق الرسول، أي بطلب من الرسول فاتصلوا بعالم القدس والنفوس الملكية ورأوا ذلك رأي العين لاعتذروا بأنها تخيّلات وأنهم سُحِروا فرأوا ما ليس بشيء شيئاً‏.‏

ونظيره قوله‏:‏ ‏{‏ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 7‏]‏‏.‏

و ‏(‏ظلّ‏)‏ تدل على الكون في النهار، أي وكان ذلك في وضح النهار وتبين الأشباح وعدم التردد في المرئي‏.‏

والعُروج‏:‏ الصعود‏.‏ ويجوز في مضارعه ضمّ الراء وبه القراءة وكسرها، أي فكانوا يصعدون في ذلك الباب نهاراً‏.‏

وسكرت‏}‏ بضم السين وتشديد الكاف في قراءة الجمهور، وبتخفيف الكاف في قراءة ابن كثير‏.‏ وهو مبني للمجهول على القراءتين، أي سدّت‏.‏ يقال‏:‏ سكر البابَ بالتشديد وسكره بالتخفيف إذا سدّه‏.‏

والمعنى‏:‏ لجحدوا أن يكونوا رأوا شيئاً‏.‏

وأتوا بصيغة الحصر للدلالة على أنهم قد بتّوا القول في ذلك‏.‏ وردّ بعضهم على بعض ظن أن يكونوا رأوا أبواب السماء وعرجوا فيها، وزعموا أنهم ما كانوا يبصرون، ثم أضربوا عن ذلك إضراب المتردّد المتحيّر ينتقل من فرض إلى فرض فقالوا‏:‏ ‏{‏بل نحن قوم مسحورون‏}‏، أي ما رأيناه هو تخيلات المسحور، أي فعادوا إلى إلقاء تبعة ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سحرهم حين سأل لهم الله أن يفتح باباً من السماء ففتحه لهم‏.‏

وقد تقدم الكلام على السحر وأحواله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلمون الناس السحر‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏102‏)‏‏.‏

وإقحام كلمة قوم‏}‏ هنا دون أن يقولوا‏:‏ بل نحن مسحورون، لأن ذكرها يقتضي أن السحر قد تمكن منهم واستوى فيه جميعهم حتى صار من خصائص قوميتهم كما تقدم تبيينه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏ وتكرر ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏16‏)‏ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏17‏)‏ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

لما جرى الكلام السابق في شأن تكذيب المشركين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما توركوا به في ذلك، وكان الأصلُ الأصيل الذي بَنوا عليه صَرْح التكذيب أصلين هما إبطاله إلهية أصنامهم، وإثباته البعث، انبرى القرآن يبيّن لهم دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية، فذكر الدلائل الواضحة من خلق السماوات والأرض، ثم أعقبها بدلائل إمكان البعث من خلق الحياة والموت وانقراض أمم وخلفها بأخرى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 23‏]‏ الآية‏.‏ وصادف ذلك مناسبة ذكر فتح أبواب السماء في تصوير غلوائهم بعنادهم، فكان الانتقال إليه تخلصاً بديعاً‏.‏

وفيه ضرب من الاستدلال على مكابرتهم فإنهم لو أرادوا الحق لكان لهم في دلالة ما هو منهم غنية عن تطلب خوارق العادات‏.‏

والخبر مستعمل في التذكير والاستدلال لأن مدلول هذه الأخبار معلوم لديهم‏.‏

وافتتح الكلام بلام القسم وحرف التحقيق تنزيلاً للمخاطبين الذاهلين عن الاستدلال بذلك منزلة المتردّد فأكّد لهم الكلام بمؤكدين‏.‏ ومرجع التأكيد إلى تحقيق الاستدلال وإلى الإلجاء إلى الإقرار بذلك‏.‏

والبروج‏:‏ جمع بُرج بضم الباء‏.‏ وحقيقته البناء الكبير المتّخذ للسكنى أو للتحصّن‏.‏ وهو يرادف القصر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو كنتم في بروج مشيدة‏}‏ في سورة النساء ‏(‏78‏)‏‏.‏

وأطلق البرج على بقعة معينة من سمت طائفة من النجوم غير السيارة ‏(‏وتسمى النجوم الثوابت‏)‏ متجمع بعضها بقرب بعض على أبعاد بينها لا تتغير فيما يُشاهد من الجو، فتلك الطائفة تكون بشكل واحد يشابه نقطاً لو خططت بينها خطوطٌ لخرج منها شِبه صورة حَيوان أو آلة سموا باسمها تلك النجوم المشابهة لهيئتها وهي واقعة في خط سير الشمس‏.‏

وقد سماها الأقدمون من علماء التوقيت بما يرادف معنى الدار أو المكان‏.‏ وسماها العرب بُروجاً ودارات على سبيل الاستعارة المجعولة سبباً لوضع الاسم؛ تخيّلوا أنها منازل للشمس لأنهم وقتوا بجهتها سمت موقع الشمس من قُبة الجو نهاراً فيما يخيل للناظر أن الشمس تسير في شبه قوس الدائرة‏.‏ وجعلوها اثني عشر مكاناً بعدد شهور السنة الشمسية وما هي في الحقيقة إلا سُموت لجهاتتٍ تُقابلُ كل جهة منها الأرضَ من جهة وراءِ الشمس مدة معينة‏.‏ ثم إذا انتقل موقع الأرض من مدارها كل شهر من السنة تتغير الجهة المقابلة لها‏.‏ فبِما كان لها من النظام تَسنّى أن تجعل علامات لمواقيت حلول الفصول الأربعة وحلول الأشهر الاثني عشر، فهم ضبطوا لتلك العلامات حدوداً وَهمية عينوا مكانها في اللّيل من جهة موقع الشمس في النهار وأعادوا رصدها يوماً فيوماً، وكلما مضت مدة شهر من السنة ضبطوا للشهر الذي يليه علامات في الجهة المقابلة لموقع الشمس في تلك المدة‏.‏ وهكذا، حتى رأوا بعد اثني عشر شهراً أنهم قد رجعوا إلى مقابلة الجهة التي ابتدأوا منها فجعلوا ذلك حولاً كاملاً‏.‏

وتلك المسافة التي تخال الشمس قد اجتازتها في مدة السّنة سموها دائرة البروج أو مِنْطقة البروج‏.‏ وللتمييز بين تلك الطوائف من النجوم جعلوا لها أسماء الأشياء التي شبهوها بها وأضافوا البرج إليها‏.‏

وهي على هذا الترتيب ابتداء من برج مدخل فصل الربيع‏:‏ الحمَل، الثور، الجوزاء، ‏(‏مشتقة من الجوز بفتح فسكون الوسط لأنها معترضة في وسط السماء‏)‏، السَرَطان، الأسَد، السُنبلة، الميزان، العَقرب، القَوْس، الجَدْي، الدَلْو، الحوت‏.‏

فاعتبروا لبرج الحمل شهر ‏(‏أبرير‏)‏ وهكذا، وذلك بمصادفة أن كانت الشمس يومئذٍ في سَمتتِ شكللٍ نجمي شبهوه بنُقَط خطوط صورة كبش‏.‏ وبذلك يعتقد أن الأقدمين ضبطوا السنة الشمسية وقسموها إلى الفصول الأربعة، وإلى الأشهر الاثني عشر قبل أن يضبطوا البروج‏.‏ وإنما ضبطوا البروج لقصد توقيت ابتداء الفصول بالضبط ليعرفوا ما مضى من مدتها وما بقي‏.‏

وأول من رسم هذه الرسوم الكلدانيون، ثم انتقل علمهم إلى بقية الأمم؛ ومنهم العرب فعرفوها وضبطوها وسموها بلغتهم‏.‏

ولذلك أقام القرآن الاستدلال بالبروج على عظيم قدرته وانفراده بالخلق لأنهم قد عرفوا دقائقها ونظامها الذي تهيأت به لأن تكون وسيلة ضبط المواقيت بحيث لا تُخلف ملاحظة راصدها‏.‏ وما خلقها الله بتلك الحالة إلا ليجعلها صالحة لضبط المواقيت كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لتعلموا عدد السنين والحساب‏}‏ ‏[‏سورة يونس‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ثم ارتقى في الاستدلال بكون هذه البروج العظيمة الصنع قد جُعلت بأشكال تقع موقع الحسن في الأنظار فكانت زينة للناظرين يتمتعون بمشاهدتها في الليل فكانت الفوائد منها عديدة‏.‏

وأما قوله‏:‏ وحفظناها من كل شيطان رجيم‏}‏ فهو إدماج للتعليم في أثناء الاستدلال‏.‏ وفيه التنويه بعصمة الوحي من أن يتطرقه الزيادة والنقص، بأن العوالم التي يصدر منها الوحي وينتقل فيها محفوظة من العناصر الخبيثة‏.‏ فهو يرتبط بقوله‏:‏ ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وكانوا يقولون‏:‏ محمد كاهن؛ ولذلك قال الوليد بن المغيرة لما حاورهم فيما أعدوا من الاعتذار لوفود العرب في موسم الحجّ إذا سألوهم عن هذا الرجل الذي ادّعى النبوءة‏.‏ وقد عرضوا عليه أن يقولوا هو كاهن، فكان من كلام الوليد أن قال‏.‏‏.‏ ولا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزة الكاهن ولا سجعه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون‏}‏ ‏[‏سورة الحاقة‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وكان الكهان يزعمون أن لهم شياطين تأتيهم بخبر السماء، وهم كاذبون ويتفاوتون في الكذب‏.‏

والمراد بالحفظ من الشياطين الحفظ من استقرارها وتمكنها من السماوات‏.‏ والشيطان تقدم في سورة البقرة‏.‏

والرجيم‏:‏ المحقر؛ لأن العرب كانوا إذا احتقروا أحداً حصبوه بالحصباء، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فاخرج منها فإنك رجيم‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 34‏]‏، أي ذميم محقر‏.‏

والرّجام بضم الراء الحجارة‏.‏ قيل وهي أصل الاشتقاق‏.‏ ويحتمل العكس‏.‏ وقد كان العرب يرجمون قبر أبي رِغال الثقفي الذي كان دليل جيش الحبشة إلى مكة‏.‏

قال جرير‏:‏

إذا مات الفرزدق فارجموه *** كما تَرمون قبر أبي رِغال

والرجم عادة قديمة حكاها القرآن عن قوم نوح ‏{‏قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 116‏]‏‏.‏ وعن أبي إبراهيم ‏{‏لئن لم تنته لأرجمنك‏}‏ ‏[‏سورة مريم‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وقال قوم شعيب‏:‏ ‏{‏ولولا رهطك لرجمناك‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وليس المراد به الرجم المذكور عقبه في قوله‏:‏ فأتبعه شهاب مبين‏}‏ لأن الاستثناء يمنع من ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين‏}‏‏.‏

واستراق السمع‏:‏ سرقتهُ‏.‏ صيغ وزن الافتعال للتكلف‏.‏ ومعنى استراقه الاستماع بخفية من المتحدث كأن المستمع يسرق من المتكلم كلامه الذي يخفيه عنه‏.‏

و«أتبعه» بمعنى تَبعه‏.‏ والهمزة زائدة مثل همزة أبان بمعنى بان‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏175‏)‏‏.‏

والمبين‏:‏ الظاهر البين‏.‏

وفيه تعليم لهم بأن الشهب التي يشاهدونها متساقطةً في السماء هي رجوم للشياطين المسترِقة طرداً لها عن استراق السمع كاملاً، فقد عرفوا ذلك من عهد الجاهلية ولم يعرفوا سببه‏.‏

والمقصود من منع الشياطين من ذلك منعهم الاطلاع على ما أراد الله عدمَ اطلاعهم عليه من أمر التكوين ونحوه؛ مما لو ألقته الشياطين في علم أوليائهم لكان ذلك فساداً في الأرض‏.‏ وربما استدرج الله الشياطين وأولياءهم فلم يمنع الشياطين من استراق شيء قليل يلقونه إلى الكهان، فلما أراد الله عصمة الوحي منعهم من ذلك بتاتاً فجعل للشهب قوة خرق التموجات التي تتلقى منها الشياطين المسترقون السمعَ وتمزيققِ تلك التدرجات الموصوفة في الحديث الصحيح‏.‏

ثم إن ظاهر الآية لا يقتضي أكثر من تحكك مسترق السمع على السماوات لتحصيل انكشافات جبل المسترق على الحرص على تحصيلها‏.‏ وفي آية الشعراء ما يقتضي أن هذا المسترق يلقي ما تَلقاه من الانكشافات إلى غيره لقوله‏:‏ ‏{‏يلقون السمع وأكثرهم كاذبون‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 223‏]‏‏.‏

ومقتضى تكوين الشهب للرجم أن هذا الاستراق قد مُنع عن الشياطين‏.‏

وفي سورة الجن دلالة على أنه منع بعد البعثة ونزول القرآن إحكاماً لحفظ الوحي من أن يلتبس على الناس بالكهانة، فيكون ما اقتضاه حديث عائشة وأبي هُريرة رضي الله عنهم من استراق الجن السمع وصفاً للكهانة السابقة‏.‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏ليسوا بشيء‏}‏ وصفاً لآخر أمرهم‏.‏

وقد ثبت بالكتاب والسنّة وجود مخلوقات تسمى بالجن وبالشياطين مع قوله‏:‏ ‏{‏والشياطين كل بناء وغواص‏}‏ ‏[‏سورة ص‏:‏ 37‏]‏ الآية‏.‏ والأكثر أن يخص باسم الجن نوع لا يخالط خواطر البشر، ويخص باسم الشياطين نوع دأبه الوسوسة في عقول البشر بإلقاء الخواطر الفاسدة‏.‏

وظواهر الأخبار الصحيحة من الكتاب والسنة تدل على أن هذه المخلوقات أصناف، وأنها سابحة في الأجواء وفي طبقات مما وراء الهواء وتتصل بالأرض، وأن منها أصنافاً لها اتصَال بالنفوس البشرية دون الأجسام وهو الوسواس ولا يخلو منه البشر‏.‏

وبعضُ ظواهر الأخبار من السنة تقتضي أن صنفاً له اتصال بنفوس ذات استعداد خاص لاستفادة معرفة الواقعات قبل وقوعها أو الواقعات التي يبعد في مجاري العادات بلوغ وقوعها، فتسبق بعضُ النفوس بمعرفتها قبل بلوغها المعتاد‏.‏

وهذه النفوس هي نفوس الكهان وأهل الشعوذة، وهذا الصنف من المخلوقات من الجن أوالشياطين هو المسمى بمسترق السمع وهو المستثنى بقوله تعالى‏:‏ إلا من استرق السمع‏}‏‏.‏ فهذا الصنف إذا اتصل بتلك النفوس المستعدة للاختلاط به حجز بعض قواها العقلية عن بعض فأكسب البعض المحجوز عنه ازدياد تأثير في وظائفه بما يرتد عليه من جرّاء تفرغ القوة الذهنية من الاشتغال بمزاحمه إلى التوجه إليه وحده، فتكسبه قدرة على تجاوز الحد المعتاد لأمثاله، فيخترق الحدود المتعارفة لأمثاله اختراقاً ما، فربما خلصت إليه تموجات هي أوساط بين تموجات كرة الهواء وتموجات الطبقات العليا المجاورة لها، مما وراء الكرة الهوائية‏.‏

ولنفرض أن هذه الطبقة هي المسماة بالسماء الدنيا وأن هذه التموجات هي تموجات الأثير فإنها تحفظ الأصوات مثلاً‏.‏

ثم هذه التموجات التي تخلُص إلى عقول أهل هذه النفوس المستعدة لها تخلص إليها مقطّعة مُجملة فيستعين أصحاب تلك النّفوس على تأليفها وتأويلها بما في طباعهم من ذكاء وزكانة، ويخبرون بحاصل ما استخلصوه من بين ما تلقفوه وما ألّفوه وما أولوه‏.‏ وهم في مصادفة بعض الصدق متفاوتون على مقدار تفاوتهم في حدة الذكاء وصفاء الفهم والمقارنة بين الأشياء، وعلى مقدار دُربتهم ورسوخهم في معالجة مهنتهم وتقادم عهدهم فيها‏.‏ فهؤلاء هم الكهان، وكانوا كثيرين بين قبائل العرب‏.‏ وتختلف سمعتهم بين أقوامهم بمقدار مصادفتهم لما في عقول أقوامهم‏.‏ ولا شك أن لسذاجة عقول القوم أثراً ما، وكان أقوامهم يعُدون المعمّرين منهم أقرب إلى الإصابة فيما ينبئون به، وهم بفرط فطنتهم واستغفالهم البله من مريديهم لا يصدرون إلاّ كلاماً مجملاً موجهاً قابلاً للتأويل بعدة احتمالات، بحيث لا يؤخذون بالتكذيب الصريح، فيكلون تأويل كلماتهم إلى ما يحدث للنّاس في مثل الأغراض الصادرة فيها تلك الكلماتُ، وكلامهم خلو من الإرشاد والحقائق الصالحة‏.‏

وهم بحيلتهم واطلاعهم على ميادين النفوس ومؤثراتها التزموا أن يصوغوا كلامهم الذي يخبرون به في صيغة خاصة ملتزماً فيها فقرات قصيرة مختتمة بأسجاع، لأن الناس يحسبون مزاوجة الفقرة لأختها دليلاً على مصادفتها الحق والواقع، وأنها أمارة صدق‏.‏ وكانوا في الغالب يلوذون بالعزلة، ويكثرون النظر في النجوم ليلاً لتتفرغ أذهانهم‏.‏ فهذا حال الكهان وهو قائم على أسس الدجل والحيلة والشعوذة مع الاستعانة باستعداد خاص في النفس وقوة تخترق الحواجز المألوفة‏.‏

وهذا يفسره ما في كتاب الأدب من «صحيح البخاري» عن عائشة‏:‏ أن ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال‏:‏ ‏"‏ ليسوا بشيء ‏(‏أي لا وجود لما يزعمونه‏)‏‏.‏ فقيل‏:‏ يا رسول الله فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حَقاً‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنيّ فَيقرُّها في أذن وليّه قَرّ الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة ‏"‏‏.‏

وما في تفسير سورة الحجر من «صحيح البخاري» من حديث سفيان عن أبي هُريرة قال نبي الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا قضى الله الأمر في السماء ‏(‏أي أمر أو أوحى‏)‏ وضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله «فإنهم المأمورون كل في وظيفته» كالسلسلة على صَفواننٍ ينفُذُهم ذلك ‏(‏أي يحصل العلم لهم‏.‏ وتقريبها حركات آلة تلقي الرسائل البرقية تلغراف‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر ‏(‏أي هي طبقات مفاوتة في العلو‏)‏‏.‏ ووصف سفيان بيده فحرّفها وفَرّج بين أصابع يده اليمنى نَصَبها بعضَها فوق بعض ‏(‏فيسمع المسترق الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخَر إلى من تحته حتّى يلقيها على لسان الكاهن أو الساحر‏)‏، فربّما أدرك الشّهاب المستمع قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركها فيكذب معها مائة كَذبة‏.‏ فيقولون‏:‏ ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقاً للكلمة التي سُمعت من السماء ‏"‏‏.‏ أما أخبار الكهان وقصصهم فأكثرها موضوعات وتكاذيب‏.‏ وأصحها حديث سواد بن قارب في قصة إسلام عُمر رضي الله عنه من «صحيح البخاري»‏.‏

وهذه الظواهر كلها لا تقتضي إلا إدراك المسموعات من كلام الملائكة‏.‏ ولا محالة أنها مقرّبة بالمسموعات، لأنها دلالة على عزائم النّفوس الملكية وتوجهاتها نحو مسخراتها‏.‏

وعبر عنه بالسمع لأنه يؤول إلى الخبر، فالذي يحصل لمسترق السمع شعور ما تتوجه الملائكة لتسخيره، والذي يحصل للكاهن كذلك‏.‏ والمآل أن الكاهن يخبر به فيؤول إلى مسموع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ‏(‏19‏)‏ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

انتقال من الاستدلال بالآيات السماوية إلى الاستدلال بالآيات الأرضية لمناسبة المضادة‏.‏

وتقدم الكلام على معنى ‏{‏مددناها‏}‏ وعلى ‏(‏الرواسي‏)‏ في سورة الرعد‏.‏

والموزون‏:‏ مستعار للمقدّر المضبوط‏.‏

و ‏{‏معايش‏}‏‏:‏ جمع معيشة‏.‏ وبعد الألف ياء تحتية لا همزة كما تقدم في صدر سورة الأعراف‏.‏

‏{‏ومن لستم له برازقين‏}‏ عطف على الضمير المجرور في ‏{‏لكم‏}‏، إذ لا يلزم للعطف على الضمير المجرور المنفصل الفصْلُ بضمير منفصل على التحقيق، أي جعلنا لكم أيها المخاطبين في الأرض معايش، وجعلنا في الأرض معايش لمن لستم له برازقين، أي لمن لستم له بمطعمين‏.‏

وما صدق ‏{‏مَنْ‏}‏ الذي يأكل طعامه مما في الأرض، وهي الموجودات التي تقتات من نبات الأرض ولا يعقلها النّاس‏.‏

والإتيان ب ‏{‏مَن‏}‏ التي الغالب استعمالها للعاقل للتغليب‏.‏

ومعنى ‏{‏لستم له برازقين‏}‏ نفي أن يكونوا رازقيه لأن الرزق الإطعام‏.‏ ومصدر رَزَقه الرّزق بفتح الراء‏.‏ وأما الرِّزق بكسر الراء فهو الاسم وهو القوت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

هذا اعتراض ناشئ عن قوله ‏{‏وأنبتنا فيها من كل شيء موزون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 19‏]‏ الآية‏.‏ وفي الكلام حذف الصفة كقوله تعالى ‏{‏يأخذ كل سفينة غصباً‏}‏ ‏[‏سورة الكهف‏:‏ 79‏]‏ أي سفينةٍ صالحةٍ‏.‏

والخزائن تمثيل لصلوحية القدرة الإلهية لتكوين الأشياء النافعة‏.‏ شبهت هيئة إيجاد الأشياء النافعة بهيئة إخراج المخزونات من الخزائن على طريقة التمثيلية المَكنية، ورُمز إلى الهيئة المشبّه بها بما هو من لوازمها وهو الخزائن‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أقول لكم عندي خزائن الله‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏50‏)‏‏.‏

وشمل ذلك الأشياء المتفرقة في العالم التي تصل إلى الناس بدوافع وأسباب تستتب في أحوال مخصوصة، أو بتركيب شيء مع شيء مثل نزول البَرد من السحاب وانفجار العيون من الأرض بقصد أو على وجه المصادفة‏.‏

وقوله وما ننزله إلا بقدر معلوم‏}‏ أطلق الإنزال على تمكين الناس من الأمور التي خلقها الله لنفعهم، قال تعالى ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏29‏)‏، إطلاقاً مجازياً لأن ما خلقه الله لمّا كان من أثر أمر التكوين الإلهي شبّه تمكين الناس منه بإنزال شيء من علو باعتبار أنه من العالم اللدني، وهو علو معنوي، أو باعتبار أن تصاريف الأمور كائن في العوالم العلوية، وهذا كقوله تعالى ‏{‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج في سورة الزمر ‏(‏6‏)‏، وقوله تعالى يتنزل الأمر بينهن‏}‏ في سورة الطلاق ‏(‏12‏)‏‏.‏

والقَدر بفتح الدال‏:‏ التقدير‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏فسالت أودية بقدرها‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏17‏)‏‏.‏

والمراد ‏{‏بمعلوم‏}‏ أنه معلوم تقديره عند الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

انتقال من الاستدلال بظواهر السماء وظواهر الأرض إلى الاستدلال بظواهر كرة الهواء الواقعة بين السماء والأرض، وذلك للاستدلال بفعل الرياح والمنة بما فيها من الفوائد‏.‏

والإرسال‏:‏ مجاز في نقل الشيء من مكان إلى مكان‏.‏ وهذا يدل على أن الرياح مستمرة الهبوب في الكرة الهوائية‏.‏ وهي تظهر في مكان آتية إليه من مكان آخر وهكذا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

و ‏{‏لواقح‏}‏ حال من ‏{‏الرياح‏}‏‏.‏ وقع هذا الحال إدماجاً لإفادة معنيين كما سيأتي عن مالك رحمه الله‏.‏

و ‏{‏لواقح‏}‏ صالحٌ لأن يكون جمع لاَقح وهي الناقة الحبلى‏.‏ واستعمل هنا استعارة للريح المشتملة على الرطوبة التي تكون سبباً في نزول المطر، كما استعمل في ضدها العقيم ضد اللاقح في قوله تعالى ‏{‏إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم‏}‏ ‏[‏سورة الذاريات‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وصالح لأن يكون جمع مُلقح وهو الذي يجعل غيره لاقحاً، أي الفحل إذا ألقح الناقة، فإن فواعل يجيء جمعَ مُفعل مذكرٍ نادراً كقول الحارث أو ضرار النهشلي‏:‏

لبيك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيحُ الطوايح

روعي فيه جواز تأنيث المشبه به‏.‏ وهي جمع الفحول لأن جمع ما لا يعقل يجوز تأنيثه‏.‏

ومعنى الإلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو ثم ينزل مطراً على الأرض؛ وأنها تلقح الشجر ذي الثمرة بأن تَنقُلَ إلى نَوْره غبرة دقيقة من نور الشجر الذكر فتصلح ثمرته أو تثبت، وبدون ذلك لا تثبت أو لا تصلح‏.‏ وهذا هو الإبّار‏.‏ وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة‏.‏ وبعضه يكتفي منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر‏.‏

ومن بلاغة الآية إيراد هذا الوصف لإفادة كلا العمليْن اللّذين تعملهما الرياح، وقد فُسرت الآية بهما‏.‏ واقتصر جمهور المفسرين على أنها لواقح السحاب بالمطر‏.‏

وروى أبو بكر بن العربي عن مالك أنه قال‏:‏ قال الله تعالى وأرسلنا الرياح لواقح‏}‏ فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ولا أريد ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذٍ لم يكن فساداً لا خير فيه‏.‏ ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت‏.‏

وفرع قوله ‏{‏فأنزلنا من السماء ماء‏}‏ على قوله ‏{‏وأرسلنا الرياح‏}‏‏.‏

وقرأ حمزة ‏{‏وأرسلنا الريح لواقح‏}‏ بإفراد «الريح» وجمع «لواقح» على إرادة الجنس والجنس له عدة أفراد‏.‏

و ‏{‏أسقيناكموه‏}‏ بمعنى جعلناه لكم سقياً، فالهمزة فيه للجعل‏.‏ وكثر إطلاق أسقى بمعنى سقى‏.‏

واستعمل الخزن هنا في معنى الخزن في قوله آنفاً ‏{‏وإن من شيء إلا عندنا خزائنه‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 21‏]‏ أي وما أنتم له بحافظين ومنشئين عندما تريدون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

لما جرى ذكر إنزال المطر وكان مما يسبق إلى الأذهان عند ذكر المطر إحياءُ الأرض به ناسب أن يذكر بعده جنس الإحياء كله لما فيه من غرض الاستدلال على الغافلين عن الوحدانية، ولأن فيه دليلاً على إمكان البعث‏.‏ والمقصود ذكر الإحياء ولذلك قُدم‏.‏ وذكر الإماتة للتكميل‏.‏

والجملة عطف على جملة ‏{‏ولقد جعلنا في السماء بروجا‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 16‏]‏ للدلالة على القدرة وعموم التصرف‏.‏

وضمير نَحْن ضمير فصل دخلت عليه لام الابتداء‏.‏ وأكد الخبر ب ‏(‏إنّ‏)‏ واللاّم وضمير الفصل لتحقيقه وتنزيلاً للمخاطبين في إشراكهم منزلة المنكرين للإحياء والإماتة‏.‏

والمراد بالإحياء تكوين الموجودات التي فيها الحياة وإحياؤهها أيضاً بعد فناء الأجسام‏.‏ وقد أدمج في الاستدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف إثبات البعث ودفع استبعاد وقوعه واستحالتهِ‏.‏

ولما كان المشركون منكرين نوعاً من الإحياء كان توكيد الخبر مستعملاً في معنييه الحقيقي والتنزيلي‏.‏

وجملة ونحن الوارثون‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وإنا لنحن نحي ونميت‏}‏‏.‏

ومعنى الإرث هنا البقاء بعد الموجودات تشبيهاً للبقاء بالإرث وهو أخذ ما يتركه الميت من أرض وغيرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ‏(‏24‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

لما ذكر الإحياء والإماتة وكان الإحياء بكسر الهمزة يذكر بالأحياء بفتحها، وكانت الإماتة تذكّر بالأموات الماضين تخلص من الاستدلال بالأحياء والإماتة على عظم القدرة إلى الاستدلال بلازم ذلك على عظم علم الله وهو علمه بالأمم البائدة وعلم الأمم الحاضرة؛ فأريد بالمستقدمين الذين تقدموا الأحياء إلى الموت أو إلى الآخرة، فالتقدم فيه بمعنى المضي؛ وبالمستأخرين الذين تأخروا وهم الباقون بعد انقراض غيرهم إلى أجل يأتي‏.‏

والسين والتاء في الوصفين للتأكيد مثل استجاب؛ ولكن قولهم استقدم بمعنى تقدم على خلاف القياس لأن فعله رباعي‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى ‏{‏لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏34‏)‏‏.‏

وقد تقدم في طالع تفسير هذه السورة الخبر الذي أخرجه الترمذي في جامعه من طريق نوح بن قيس ومن طريق جعفر بن سليمان في سبب نزول هذه الآية‏.‏ وهو خبر واهٍ لا يلاقي انتظام هذه الآيات ولا يكون إلا من التفاسير الضعيفة‏.‏

وجملة وإن ربك هو يحشرهم‏}‏ نتيجة هذه الأدلة من قوله‏:‏ ‏{‏وإنا لنحن نحي ونميت‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 23‏]‏ فإن الذي يُحيي الحياة الأولى قادر على الحياة الثانية بالأوْلى، والّذي قدّر الموت ما قدره عبثاً بعد أن أوجد الموجودات إلاّ لتستقبلوا حياة أبدية؛ ولولا ذلك لقدر الدّوام على الحياة الأولى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً‏}‏ ‏[‏سورة الملك‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وللإشارة إلى هذا المعنى من حكمة الإحياء والإماتة أتبعه بقوله‏:‏ إنه حكيم عليم‏}‏ تعليلاً لجملة ‏{‏وإن ربك هو يحشرهم‏}‏ لأن شأن ‏{‏إنّ‏}‏ إذا جاءت في غير معنى الرد على المنكر أن تفيد معنى التعليل والربط بما قبلها‏.‏

والحكيم الموصوف بالحكمة‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يؤتي الحكمة من يشاء‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 269‏]‏ وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعلموا أن الله عزيز حكيم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏209‏)‏‏.‏

و العَليم الموصوف بالعلم العام، أي المحيط‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلم الله الذين آمنوا‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏140‏)‏‏.‏

وقد أكدت جملة وإن ربك هو يحشرهم‏}‏ بحرف التوكيد وبضمير الفصل لرد إنكارهم الشديد للحشر‏.‏ وقد أسند الحشر إلى الله بعنوان كونه رب محمد صلى الله عليه وسلم تنويهاً بشأن النبي عليه الصلاة والسلام لأنهم كذبوه في الخبر عن البعث ‏{‏وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبّئكم إذا مزّقتم كل ممزّق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جِنّة‏}‏ ‏[‏سورة سبأ‏:‏ 7 8‏]‏ أي فكيف ظنك بجزائه مكذبيك إذا حشرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏26‏)‏ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏‏}‏

تكملة لإقامة الدليل على انفراده تعالى بخلق أجناس العوالم وما فيها‏.‏ ومنه يتخلص إلى التذكير بعداوة الشيطان للبشر ليأخذوا حذرهم منه ويحاسبوا أنفسهم على ما يخامرها من وَسْواسه بما يرديهم‏.‏ جاء بمناسبة ذكر الإحياء والإماتة فإن أهم الإحياء هو إيجاد النوع الإنساني‏.‏ ففي هذا الخبر استدلال على عظيم القدرة والحكمة وعلى إمكان البعث، وموعظةٌ وذكرى‏.‏ والمراد بالإنسان آدم عليه السلام‏.‏

والصلصال‏:‏ الطين الذي يترك حتى ييبس فإذا يبس فهو صلصال وهو شبه الفَخّار؛ إلا أن الفَخّار هو ما يبس بالطبخ بالنّار‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏خلق الإنسان من صلصال كالفخار‏}‏ ‏[‏سورة الرحمن‏:‏ 14‏]‏‏.‏

والحَمأ‏:‏ الطين إذا اسودّ وكرهت رائحته‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من حمإ‏}‏ صفة ل ‏{‏صلصال‏}‏ و‏{‏مسنون‏}‏ صفة ل ‏{‏حمإ‏}‏ أو ل ‏{‏صلصال‏}‏‏.‏ وإذ كان الصلصال من الحمأ فصفة أحدهما صفة للآخر‏.‏

والمسنون‏:‏ الذي طالت مدة مكثه، وهواسم مفعول من فعل سنّهُ إذا تركه مدة طويلة تشبه السّنة‏.‏ وأحسب أن فعل ‏(‏سَن‏)‏ بمعنى ترك شيئاً مدة طويلة غيرُ مسموع‏.‏

ولعل ‏(‏تَسَنّه‏)‏ بمعنى تغيّر من طول المدّة أصله مطاوع سَنه ثم تنوسي منه معنى المطاوعة‏.‏ وقد تقدم قوله تعالى ‏{‏لم يتسنّه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏259‏)‏‏.‏

والمقصود من ذكر هذه الأشياء التنبيه على عجيب صنع الله تعالى إذ أخرج من هذه الحالة المهينة نوعاً هو سيد أنواع عالم المادة ذات الحياة‏.‏

وفيه إشارة إلى أن ماهية الحياة تتقوم من الترابية والرطوبة والتعفن، وهو يعطي حرارة ضعيفة‏.‏ ولذلك تنشأ في الأجرام المتعفّنة حيوانات مثل الدود، ولذلك أيضاً تنشأ في الأمزجة المتعفّنة الحمى‏.‏

وفيه إشارة إلى الأطوار التي مرّت على مادة خلق الإنسان‏.‏

وتوكيد الجملة بلام القسم وبحرف ‏(‏قد‏)‏ لزيادة التحْقيق تنبيهاً على أهميّة هذا الخلق وأنه بهذه الصفة‏.‏

وعطف جملة والجانّ خلقناه‏}‏ إدماج وتمهيد إلى بيان نشأة العداوة بين بني آدم وجُند إبليس‏.‏

وأكدت جملة ‏{‏والجان خلقناه‏}‏ بصيغة الاشتغال التي هي تقوية للفعل بتقدير نظيره المحذوف، ولما فيها من الاهتمام بالإجمال ثم التفصيل لمثل الغرض الّذي أكدت به جملة ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان‏}‏ الخ‏.‏

وفائدة قوله‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي من قبل خلق الإنسان تعليم أن خلق الجانّ أسبق لأنّه مخلوق من عنصر الحرارة والحرارة أسبق من الرطوبة‏.‏

و ‏{‏السموم‏}‏ بفتح السين‏:‏ الريح الحارة‏.‏ فالجنّ مخلوق من النارية والهوائية ليحصل الاعتدال في الحرارة فيقبل الحياة الخاصة اللائقة بخلقة الجنّ، فكما كَوّن الله الحمأةَ الصلصالَ المسنونَ لخلق الإنسان، كَون ريحاً حارة وجعل منها الجنّ‏.‏ «فهو مكون من حرارة زائدة على مقدار حرارة الإنسان ومن تهوية قويّة‏.‏ والحكمة كلّها في إتقان المزج والتركيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 35‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏28‏)‏ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏29‏)‏ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ‏(‏30‏)‏ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏33‏)‏ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏34‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏35‏)‏‏}‏

عطف قصة على قصة‏.‏

و ‏{‏إذ‏}‏ مفعول لفعل ‏(‏اذكر‏)‏ محذوف‏.‏ وقد تقدم الكلام في نظائره في سورة البقرة وفي سورة الأعراف‏.‏

والبشر مرادف الإنسان، أي أنّي خالق إنساناً‏.‏ وقد فهم الملائكة الحقيقة بما ألقَى الله فيهم من العلم، أو أن الله وصف لهم حقيقة الإنسان بالمعنى الذي عبّر عنه في القرآن بالعبارة الجامعة لذلك المعنى‏.‏

وإنما ذُكر للملائكة المادة التي منها خلق البشر ليعلموا أن شرف الموجودات بمزاياها لا بمادة تركيبها كما أومأ إلى ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏}‏‏.‏

والتسوية‏:‏ تعديل ذات الشيء‏.‏ وقد أطلقت هنا على اعتدال العناصر فيه واكتمالها بحيث صارت قابلة لنفخ الروح‏.‏

والنفخ‏:‏ حقيقته إخراج الهواء مضغوطاً بين الشفتين مضمومتين كالصفير، واستعير هنا لوضع قوة لطيفة السريان قوية التأثير دَفعة واحدة، وليس ثَمة نفخ ولا منفوخ‏.‏

وتقريب نفخ الروح في الحي أنه تكون القوّة البخارية أو الكهربائية المنبعثة من القلب عند انتهاء استواء المزاج وتركيب أجزاء المزاج تكوناً سريعاً دفعياً وجريان آثار تلك القوة في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن في تجاويف جميع أعضائه الرئيسة وغيرها‏.‏

وإسناد النفخ وإضافة الروح إلى ضمير اسم الجلالة تنويه بهذا المخلوق‏.‏ وفيه إيماء إلى أن حقائق العناصر عند الله تعالى لا تتفاضل إلا بتفاضل آثارها وأعمالها، وأن كراهة الذات أو الرائحة إلى حالة يكرهها بعض الناس أو كلهم إنما هو تابع لما يلائم الإدراك الحسي أو ينافره تبعاً لطباع الأمزجة أو لإِلففِ العادة ولا يُؤْبَه في علم الله تعالى‏.‏ وهذا هو ضابط وصف القذارة والنّزاهة عند البشر‏.‏

ألا ترى أن المني يستقذر في الحس البشري على أن منه تكوين نوعه، ومنه تخلقت أفاضل البشر‏.‏ وكذلك المسك طَيّب في الحس البشري لملاءمة رائحته للشّم وما هو إلا غُدة من خارجات بعض أنواع الغزال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسلَهُ من سلالة من ماء مهين ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون‏}‏ ‏[‏سورة السجدة‏:‏ 7 9‏]‏‏.‏

وهذا تأصيل لكون عالم الحقائق غير خاضع لعالم الأوهام‏.‏ وفي الحديث «لَخلُوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك»‏.‏ وفيه لا يُكْلَم أحد في سبيل الله؛ واللّهُ أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة ودَمه يَشْخُب اللّونُ لونُ الدم والريح ريح المسك‏.‏

ومعنى فقعوا له ساجدين‏}‏ أُسقُطوا له ساجدين، وهذه الحال لإفادة نوع الوقوع، وهو الوقوع لقصد التعظيم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخرّوا له سجداً‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 100‏]‏‏.‏ وهذا تمثيل لتعظيم يناسب أحوال الملائكة وأشكالهم تقديراً لبديع الصنع والصلاحية لمختلف الأحوال الدال على تمام علم الله وعظيم قدرته‏.‏

وأمر الملائكة السجود لا ينافي تحريم السجود في الإسلام لغير الله من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن ذلك المنع لسدّ ذريعة الإشراك والملائكة معصومون من تطرّق ذلك إليهم‏.‏

وثانيها‏:‏ أن شريعة الإسلام امتازت بنهاية مبالغ الحق والصلاح، فجاءت بما لم تجئ به الشرائع السالفة لأن الله أراد بلوغ أتباعها أوج الكمال في المدارك، ولم يكن السجود من قبل محظوراً فقد سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف عليهم السلام وكانوا أهل إيمان‏.‏

وثالثها‏:‏ أن هذا إخبار عن أحوال العالم العلوي، ولا تقاس أحكامه على تكاليف عالم الدنيا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فسجد الملائكة كلهم أجمعون‏}‏ عنوان على طاعة الملائكة‏.‏

و ‏{‏كلهم أجمعون‏}‏ تأكيد على تأكيد، أي لم يتخلّف عن السجود أحد منهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين‏}‏ تقدم القول على نظيره في سورة البقرة وسورة الأعراف‏.‏

وقوله هنا ‏{‏أن يكون مع الساجدين‏}‏ بيان لقوله في سورة البقرة ‏(‏34‏)‏ ‏{‏واستكبر‏}‏ لأنه أبى أن يسجد وأن يساوي الملائكة في الرضى بالسجود‏.‏ فدلّ هذا على أنه عصى وأنه ترفّع عن متابعة غيره‏.‏

وجملة ما لك ألا تكون مع الساجدين‏}‏ استفهام توبيخ‏.‏ ومعناه أي شيء ثبت لك، أي متمكناً منك، لأن اللام تفيد الملك‏.‏ و‏{‏ألا تكون‏}‏ معمول لحرف جر محذوف تقديره ‏(‏في‏)‏‏.‏ وحَذف حرف الجر مطرد مع ‏(‏أنْ‏)‏‏.‏ وحرف ‏(‏أن‏)‏ يفيد المصدرية‏.‏ فالتقدير في انتفاء كونك من الساجدين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لم أكن لأسجد‏}‏ جُحود‏.‏ وقد تقدم أنه أشد في النفي من ‏(‏لا أسجد‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يكون لي أن أقول‏}‏ في آخر العقود ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون‏}‏ تأييد لإبايَته من السجود بأن المخلوق من ذلك الطين حقِير ذميم لا يستأهل السجود‏.‏ وهذا ضلال نشأ عن تحكيم الأوهام بإعطاء الشيء حكم وقعه في الحاسة الوهمية دون وقعه في الحاسة العقلية، وإعطاء حكم ما منه التكوين للشيء الكائن‏.‏ فشتّان بين ذكر ذلك في قوله تعالى للملائكة‏:‏ ‏{‏إني خالق بشراً من صلصال من حمإ مسنون‏}‏ وبين مقصد الشيطان من حكاية ذلك في تعليل امتناعه من السجود للمخلوق منه بإعادة الله الألفاظ التي وصف بها الملائكة‏.‏ وزاد فقال ما حكي عنه في سورة ص ‏(‏76‏)‏ إذ قال‏:‏ ‏{‏أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين‏}‏ ولم يحك عنه هنا‏.‏

وبمجموع ما حكي عنه هنا وهناك كان إبليس مصرحاً بتخطئة الخالق، كافراً بصفاته، فاستحق الطرد من عالم القدس‏.‏ وقد بيناه في سورة ص‏.‏

وعطفت جملة أمره بالخروج بالفاء لأن ذلك الأمر تفرع على جوابه المُنبئ عن كفره وعدم تأهله للبقاء في السماوات‏.‏

والفاء في ‏{‏فإنك رجيم‏}‏ دالّة على سبب إخراجه من السماوات‏.‏ و‏(‏إنّ‏)‏ مؤذنة بالتعليل‏.‏ وذلك إيماء إلى سبب إخراجه من عوالم القدس، وهو ما يقتضيه وصفه بالرجيم متلوث الطوية وخبث النفس، أي حيث ظهر هذا فيك فقد خبثت نفسك خبثاً لا يرجى بعده صلاح فلا تَبقى في عالم القدس والنزاهة‏.‏

والرجيم‏:‏ المطرود‏.‏ وهو كناية عن الحقارة‏.‏ وتقدم في أول هذه السورة ‏{‏وحفظناها من كل شيطان رجيم‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وضمير ‏{‏منها‏}‏ عائد إلى السماوات وإن لم تذكر لدلالة ذكر الملائكة عليها‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الجنة‏.‏ وقد اختلف علماؤنا في أنها موجودة‏.‏

و ‏{‏اللعنة‏}‏‏:‏ السّبّ بالطرد‏.‏ و‏(‏على‏)‏ مستعملة في الاستعلاء المجازي؛ وهو تمكن اللعنة والشتم منه حتى كأنه يقع فوقه‏.‏

وجُعل ‏{‏يوم الدين‏}‏ وهو يوم الجزاء غاية للّعن استعمالاً في معنى الدوام، كأنه قيل أبدا‏.‏ وليس ذلك بمقتضي أن اللعنة تنتهي يوم القيامة ويخلفها ضدها، ولكن المراد أن اللعنة عليه في الدنيا إلى أن يلاقي جزاء عمله فذلك يومئذٍ أشد من اللعنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏36‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏37‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

سؤاله النظِرة بعد إعلامه بأنه ملعون إلى يوم الدين فاض به خبث جبلته البالغ نهاية الخباثة التي لا يشفيها إلا دوام الإفساد في هذا العالم، فكانت هذه الرغبة مجلبة لدوام شقوته‏.‏

ولما كانت اللعنة تستمر بعد انعدام الملعون إذا اشتهر بين الناس بسوء لم يكن توقيتها بالأبد مقيداً حياة الملعون، فلذلك لم يكن لإبليس غنى بقوله تعالى ‏{‏إلى يوم الدين‏}‏ عن أن يسأل الإبقاء إلى يوم الدين ليكون مصدر الشرور للنفوس قضاء لما جبل عليه من بثّ الخُبث؛ فكان بذلك حريصاً على دوامها بما يوجه إليه من اللّعنة، فسأل النظرة حباً للبقاء لما في البقاء من استمرار عمله‏.‏

وخاطب الله بصفة الربوبية تخضّعاً وحثّاً على الإجابة، والفاء في ‏{‏فأنظرني‏}‏ فاء التفريع‏.‏ فرع السؤال عن الإخراج‏.‏

ووسّط النداء بين ذلك‏.‏

وذُكرت هذه الحالة من أوصاف نفسيته بعثاً لكراهيته في نفوس البشر الذين يرون أن حق النفس الأبية أن تأنف من الحياة الذميمة المحقرة، وذلك شأن العرب، فإذا علموا هذا الحوص من حال إبليس أبغضوه واحتقروه فلم يرضوا بكل عمل ينسب إليه‏.‏

والإنظار‏:‏ الإمهال والتأخير‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فنظرة إلى ميسرة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏280‏)‏‏.‏ والمراد تأخير إماتته لأن الإنظار لا يكرن للذات، فتعين أنه لبعض أحوالها وهو الموت بقرينة السياق‏.‏

وعبر عن يوم الدين ب يوم يبعثون‏}‏ تمهيداً لما عقد عليه العزم من إغواء البشر، فأراد الإنظار إلى آخر مدة وجود نوع الإنسان في الدنيا‏.‏ وخلق الله فيه حب النظرة التي قدرها الله له وخلقه لأجلها وأجل آثارها ليحمل أوزار تبعة ذلك بسبب كسبه واختياره تلك الحالة، فإن ذلك الكسب والاختيار هو الذي يجعله ملائماً لما خلق له، كما أومأ إلى ذلك البيان النبوي بقوله‏:‏ «كل ميسر لما خلق له»‏.‏ وضمير ‏{‏يبعثون‏}‏ للبشر المعلومين من تركيب خلق آدم عليه السلام، وأنه يكون له نسل ولا سيما حيث خلقت زوجه حينئذٍ فإن ذلك يقتضي أن يكون منهما نسل‏.‏

وعبر عن يوم البعث ب ‏{‏يوم الوقت المعلوم‏}‏ تفنّناً تفادياً من إعادة اللفظ قضاء لحق حسن النظم، ولما فيه من التعليم بأن الله يعلم ذلك الأجل‏.‏ فالمراد‏:‏ المعلوم لدينا‏.‏ ويجوز أن يراد المعلوم للناس أيضاً علماً إجمالياً‏.‏

وفيه تعريض بأن من لم يؤمنوا بذلك اليوم من الناس لا يعبأ بهم فهم كالعدم‏.‏

وهذا الإنظار رمز إلهي على أن ناموس الشر لا ينقضي من عالم الحياة الدنيا وأن نظامها قائم على التصارع بين الخير والشر والأخيار والأشرار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل نقذف بالحق على الباطل‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 18‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏كذلك يضرب الله الحقّ والباطل‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 17‏]‏‏.‏ فلذلك لم يستغن نظام العالم عن إقامة قوانين العدل والصلاح وإيداعها إلى الكفاة لتنفيذها والذّود عنها‏.‏

وعطفت مقولات هذه الأقوال بالفاء لأن كل قول منها أثاره الكلام الذي قبله فتفرّع عنه‏.‏